الأحد، 21 مايو 2017

دنشواي... جلادون وأبطال... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
دنشواي... جلادون وأبطال
عماد أبو غازي

 أعود لوصل ما انقطع من الحديث عن دنشواي، تشكلت محكمة مخصوصة برئاسة بطرس باشا غالي ناظر الحقانية (وزير العدل) وعضوية مستر هيتر نائب المستشار القضائي الإنجليزي في مصر ومستر بوند وكيل محكمة الاستئناف الأهلية والقائم مقام لادلو القائم بأعمال المحاماة والقضاء بجيش الاحتلال، وأحمد فتحي زغلول بك رئيس محكمة مصر الابتدائية، وتولى السكرتارية عثمان بك مرتضى رئيس أقلام الحقانية.

بطرس باشا غالي
 وقد تولى مسئولية الادعاء العام إبراهيم الهلباوي وكان واحدًا من أكبر المحامين وأشهرهم، ووفقا لجريدة "المنبر": "عرضت وظيفة المدعي العمومي في قضية دنشواي على الأستاذ أحمد عبد اللطيف المحامي قبل أن تعرض على الهلباوي فقبلها، ولكن على شريطة أن يكون حرًا في المرافعة، فيطلب من العقاب ما يراه موافقًا للجرم، فقيل له سننقدك مائتين ذهبًا ويجب أن تقول ما نريد أن يقال فأبى. أما الهلباوي فقبلها كما طلبوا وأعطى خمسمائة من الجنيهات بواقع مائة عن كل ضابط من الخمسة الإنجليز الذين قام مطالبًا بعقاب من اعتدى عليهم".

إبراهيم الهلباوي
 طلب الهلباوي الإعدام لسبعة من الأهالي وبأشد عقوبة بعد الإعدام لباقي المتهمين، مستندًا إلى أن مثل هذه التهم يعاقب عليها بالقتل في القوانين الإنجليزية والفرنسية وفي الشريعة الإسلامية.
 أما فريق الدفاع عن المتهمين فتكون من أحمد لطفي السيد بك ومحمد بك يوسف وإسماعيل بك عاصم، وقد ركز أحمد لطفي السيد في دفاعه على هدم الأسس القانونية لمرافعة الادعاء ونفي تهمة سبق الإصرار عن المتهمين، لكن القضية لم تكن قانونية، بل كان الأمر قرارًا سياسيًا بتوقيع عقوبات قاسية لإرهاب المصريين وإشعارهم بسطوة الوجود البريطاني.
 وبعد ثلاثة أيام من المحاكمات صدرت الأحكام يوم 27 يونيو بإعدام أربعة من أهالي القرية شنقًا، وبالأشغال الشاقة على تسعة وبالحبس مع الشغل على أربعة آخرين، وحكمت بجلد تسعة، على أن تنفذ عقوبات الإعدام والجلد بالقرية، وكلفت المحكمة مدير المنوفية (يعنى المحافظ) بتنفيذ الأحكام فورًا، وتم تنفيذ الأحكام يوم 28 يونيو 1906، واستغرق التنفيذ ساعة ونصف، حيث أُعدم أول الشهداء في الثانية ظهرًا، وبقى معلقًا في حبل المشنقة إلى أن نفذ حكم الجلد في اثنين من الأهالي، ثم شنق الثاني واستمر تنفيذ العقوبات بنفس الأسلوب إلى الساعة الثالثة والنصف.


 وقد وصف قاسم أمين في كلمات معبرة شعور الناس يوم تنفيذ الحكم، فقال: "رأيت عند كل شخص تقابلت معه قلبًا مجروحًا وزورًا مخنوقًا، ودهشة عصبية بادية في الأيدي وفي الأصوات، كان الحزن على جميع الوجوه، حزن ساكن مستسلم للقوة، مختلط بشيء من الدهشة والذهول، ترى الناس يتكلمون بصوت خافت، وعبارات متقطعة، وهيئة بائسة، منظرهم يشبه منظر قوم مجتمعين في دار ميت، كأنما كانت أرواح المشنوقين تطوف في كل مكان من المدينة، ولكن هذا الاتحاد في الشعور بقى مكتوما في النفوس لم يجد سبيلا يخرج منه فلم يبرز بروزا واضحا حتى يراه كل إنسان".

قاسم أمين
 أما جريدة مصطفى كامل "اللواء" فقد وصف مراسلها الصحفي الشاب أحمد حلمي المشهد قائلًا: "كاد دمي يجمد في عروقي بعد تلك المناظر الفظيعة، فلم استطع الوقوف بعد الذي شاهدته، فقفلت راجعًا وركبت عربتي، وبينما كان السائق يلهب خيولها بسوطه كنت أسمع صياح ذلك الرجل يلهب الجلاد جسمه بسوطه، هذا ورجائي من القراء أن يقبلوا معذرتي في عدم وصف ما في البلدة من مآتم عامة، وكآبة مادة رواقها على كل بيت، وحزن باسط ذراعيه حول الأهالي، حتى أن أجران غلالهم كان يدوسها الذين حضروا لمشاهدة هذه المجزرة البشرية، وتأكل فيها الأنعام والدواب بلا معارض ولا ممانع، كأن لا أصحاب لها، ومعذرتي واضحة، لأني لم أتمالك نفسي وشعوري أمام البلاء الواقع الذي ليس له من دافع إلا بهذا المقدار من الوصف والإيضاح".

أحمد حلمي
وبالمناسبة أحمد حلمي هو جد المبدع المصري العظيم صلاح ﭽاهين وهو من سمي على اسمه شارع أحمد حلمي بحي شبرا.
 لقد ظن الاحتلال وأعوانه في مصر أن ما فعلوه في دنشواي سيرهب المصريين ويخمد الروح الوطنية الوليدة، لكن ما حدث كان خلاف ذلك، فانقلب السحر على الساحر كما يقولون، وكان الفضل للدور الذي قام به الزعيم مصطفى كامل، كان الرجل في أوروبا للاستشفاء عندما صدر الحكم، فترك سريره وانطلق ليسمع العالم صوت مصر وليفضح جرائم الاحتلال البريطاني وأعوانه، فكتب في جريدة الفيجارو الفرنسية مقاله الشهير "إلى الأمة الإنجليزية والعالم المتمدن"، متوجهًا إلى الرأي العام العالمي وإلى ضمائر الأحرار، مستنهضًا التضامن الدولي مع القضية المصرية، وأعقب المقال بزيارة إلى لندن ألقى فيها الخطب ونشر المقالات، وأثمرت حملة مصطفى كامل، ففضحت ادعاءات الاحتلال بأنه المدافع عن الفلاح المصري، ونجحت في دفع الاحتلال إلى تغيير سياسته في مصر، وفي تعيين أول وزير فلاح هو سعد زغلول، وفي الإطاحة باللورد كرومر وإرغامه على الاستقالة بعد أقل من عام، وكانت الحادثة كذلك دافعًا إلى تحويل حركة مصطفى كامل إلى حزب منظم "الحزب الوطني" أواخر عام 1907، وإلى تحريك الدعوة لتأسيس الجامعة المصرية التي ظهرت للوجود في ديسمبر 1908.
مصر بعد دنشواي غير مصر قبلها، فقد عرف قادة الحركة الوطنية المصرية كيف يحولون المأساة إلى نقطة انطلاق.

الدستور 21 يونيو 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق