الخميس، 25 يوليو 2019

من ظلم باكثير؟ من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
من ظلم باكثير؟
عماد أبو غازي
 لعب علي أحمد باكثير دورا مهما في الثقافة المصرية لما يزيد عن ثلاثين عاما، كاتبا روائيا ومسرحيا وشاعرا ومثقفا صاحب رؤية، وباكثير من أصول يمنية حضرمية وأندونيسية، فالأب من حضرموت باليمن والأم من أندونسيا، انتقل باكثير إلى مصر في الثلاثينيات وعلى وجه التحديد عام 1934 وهو شاب في الرابعة والعشرين من عمره، عندما جاء الشاب باكثير إلى مصر كان يحلم بخلافة شوقي في إمارة الشعر كما يقول الدكتور محمد أبو بكر حميد في مقدمته للمجلد الأول من الأعمال الكاملة لعلي أحمد باكثير التي تصدر عن المجلس الأعلى للثقافة، وكان باكثير قد كتب وقتها أولى مسرحياته "همام أو في بلاد الأقحاف" وكانت مسرحية شعرية. اتجه باكثير بعد مجيئه إلى مصر لدراسة الأدب الإنجليزي في كلية الآداب بالجامعة المصرية، وشارك في كثير من الأنشطة الأدبية والثقافية التي كانت مصر تعيشها في ذلك الوقت.


 وفي سنة 1940 نشر علي أحمد باكثير أول مسرحياته في مصر وكانت تحمل عنوان "إخناتون ونفرتيتي"، ومنذ ذلك الحين وحتى روايته الأخيرة "الفارس الجميل" التي كتبها سنة 1965 قبل رحيله بأربع سنوات، كان التاريخ قاسما مشتركا أعظم في أغلب أعمال علي أحمد باكثير المسرحية والروائية.
 لقد كانت بدايات علي أحمد باكثير قريبة من بدايات نجيب محفوظ، فباكثير من مواليد عام 1910 ونجيب محفوظ من مواليد 1911، وكلاهما بدأ تجربته الإبداعية مستلهما التاريخ، وكلاهما شارك مع الشباب من مبدعي الأربعينيات في تأسيس لجنة النشر للجامعيين، وقد اشتركا في بداية حياتهما كذلك في اقتسام الجوائز الأدبية، ففاز معا بجائزة السيدة قوت القلوب الدمرداشية سنة 1943، باكثير عن روايته الأولى "سلامة والقس" ومحفوظ عن رادوبيس، ثم فازا بعد ذلك بعام ـ مناصفة أيضا ـ بجائزة وزارة المعارف، فاز باكثير بروايته "وا إسلاماه"، ونجيب محفوظ بروايته "كفاح طيبة"، لكن مسارات الإبداع سارت بهما في دروب مختلفة.
 في مطلع هذا الشهر احتفلت مصر على مدى ثلاثة أيام بالمئوية الأولى لميلاد علي أحمد باكثير، في مؤتمر أدبي كبير استضافه اتحاد كتاب مصر في مقره بالقلعة، وشارك الاتحاد في تنظيمه بالتعاون مع رابطة الأدب الإسلامي واتحاد الكتاب والأدباء العرب، وقد ساهمت وزارة الثقافة في الاحتفال من خلال مساهمة هيئة قصور الثقافة والمجلس الأعلى للثقافة، فقامت الهيئة بطباعة أعمال المؤتمر، وبدأ المجلس في إصدار الأعمال الكاملة لعلي أحمد باكثير من جمع ومراجعة وتقديم الدكتور محمد أبو بكر حميد، وقد صدر المجلد الأول الذي يضم ثلاثة من الأعمال الروائية لباكثير في اليوم الأول للمؤتمر. كان من اللافت للنظر في جلسة الافتتاح إلحاح غالبية المتحدثين على التأكيد على أن علي أحمد باكثير ظلم حيا وميتا، وإن هذا المؤتمر جاء بمثابة رد الاعتبار له بعد أكثر من أربعين عاما على رحيله.
 في الحقيقة لم أتبين من كلمات جميع من تحدثوا عن ظلم باكثير ما الظلم الذي تعرض له على وجه التحديد؟ ومن ذا الذي ظلمه؟ ومتى كان ذلك سواء في حياته أو بعد رحيله؟
 ربما يكون الاستثناء الوحيد بين المتحدثين الأستاذ فاروق شوشه الذي أفصح عما قصده بالظلم الذي كان باكثير يرى أنه يتعرض له، فقد روى عن نجيب محفوظ أن باكثير قد اشتكى له الأحساس بالظلم بسبب تجاهل النقاد اليساريين له!
 ولا أظن فيما ذكره باكثير أي نوع من الظلم، فلكل ناقد الحق في أن يكتب عمن يشاء ويتجاهل من يشاء، كما أن الساحة لم تكن قاصرة على النقاد الذين ينتمون إلى اليسار، فضلا عن أن شيخ نقاد اليسار في مصر الدكتور محمد مندور قد كتب عن باكثير، ومن هنا فلم أفهم معنا لشكوى الرجل.
 كذلك فإن رجل كباكثير لا يمكن أن يوصف بأنه قد ظلم أو تم تجاهله، لقد جاء الرجل من بلد بعيد فحصل على الجنسية المصرية وعاش مرحبا به في مصر حتى وفاته، ولم يعامل في يوم من الأيام باعتباره أجنبيا، لا في العصر الملكي ولا في العصر الجمهوري، فأي ظلم هذا الذي يتحدثون عنه!
 حصل على الجوائز في العصر الملكي، جوائز من رعاة الثقافة مثل قوت القلوب الدمرداشية، وجوائز من وزارة المعارف، وحصل على وسام الفنون من الرئيس عبد الناصر في العصر الجمهوري مثله مثل أقرانه من كبار أدباء ذلك العصر، فأي ظلم هذا الذي يتحدثون عنه!
 تحولت أولى روايته "سلامة القس" إلى فيلم سينمائي قامت ببطولته أم كلثوم وذلك قبل أن يبلغ الأربعين من عمره، فأي ظلم هذا الذي يتحدثون عنه!
 أصبحت روايته الثانية "وا إسلاماه" نصا أدبيا مقررا على طلاب المدارس المصرية في عام 1945، وتم تدريسها بعد ذلك مرات ومرات في الخمسينيات والستينيات وحتى بعد وفاته، ثم تحولت الرواية إلى فيلم سينمائي انتجته مؤسسة السينما التابعة للدولة، وما زال الفيلم مقررا علينا في المناسبات الدينية والوطنية، فأي ظلم هذا الذي يتحدثون عنه!
 في عام 1951 عندما كتب مسرحيته "مسمار جحا" أخرجها على المسرح المخرج الكبير زكي طليمات، فأي ظلم هذا الذي يتحدثون عنه!
 انتجت مسارح الدولة مسرحيته "جلفدان هانم" التي مثلها محمد عوض ونعيمة وصفي، وكانت تعرض بشكل مستمر على شاشة التلفزيون، فأي ظلم هذا الذي يتحدثون عنه!
 عمل الرجل في مؤسسات الدولة الرسمية في مجال الثقافة لسنوات، فأي ظلم هذا الذي يتحدثون عنه!
 استبعد الرجل من قوائم الاعتقال ضمن جماعة الإخوان المسلمين رغم صلاته بهم، وذلك مرتين، الأولى في عام 1954 عقب محاولتهم اغتيال جمال عبد الناصر والثانية في 1965، وفي المرتين تم الاستبعاد بتوجيه من الرئيس عبد الناصر تقديرا لباكثير كمبدع أثر في الأجيال، فأي ظلم هذا الذي يتحدثون عنه!
من إذا الذي ظلم باكثير؟
الدستور 23 يونيو 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق