الخميس، 5 أبريل 2018

داحس والغبراء... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
داحس والغبراء
عماد أبو غازي
 لقد كنت مشجع كروي قديم، كنت أنفعل في المباريات، أسب وأشتم وألعن، وربما أتشنج إذا هزم الأهلي، الأمر الذي كان يحدث نادرًا، أذكر أني تركت أول إمتحان لي في الجامعة وأنا طالب في السنة الأولى بكلية الآداب بمجرد مرور نصف الوقت، وكان امتحان اللغة العربية وآدابها لألحق بمباراة الإعادة لنهائي كأس مصر بين الأهلي والاتحاد السكندري، وهزم الأهلي وحصلت على تقدير جيد فقط في الامتحان، كنت أذهب لمشاهدة المباريات في الملعب، وأعرف جيدًا كيف يكون السلوك الجمعي للجماهير في الملاعب، عرفت معنى الجنون بالكرة منذ كنت طفلًا صغيرًا حتى  أصبحت مدرسًا في الجامعة، وفي صيف سنة 1990 بعد أن وصلنا إلى كأس العالم في روما وخرجنا منه، فبعد ما صدر مني يوم خروجنا من كأس العالم من أفعال وانفعالات اعتبرت أنه لا يليق بي وقد أصبحت مدرسًا جامعيًا وأوشكت أن أكون أبًا أن أتصرف هكذا، فبلاها كورة من أساسه.
 تذكرت ذلك كله وأنا أشاهد ما يحدث بين مصر والجزائر الآن بعد أكثر من شهر من الشحن الإعلامي للجمهور في البلدين، الشحن الذي تبارى فيه إعلاميون من الجانبين خانوا أمانة المهنة ليصبحوا نجومًا وأبطالًا وقادة للتهيج والتحريض، دون ما تقدير لعواقب ما يفعلوه، اخترقوا كل الخطوط الحمراء، وانساقوا وراء مشاعر غوغائية، وتحولوا إلى دعاة للكراهية، الأخطاء موجودة لدى الطرفين، لا يهم الآن من بدأ أو من أخطأ أكثر من الآخر، فالخطأ هناك وهنا على السواء.
 لا يمكن أن نحاسب شعب بجريمة أرتكبها مجموعة من الحمقى والبلطجية من أبنائه فنسحب سلوكهم الإجرامي المنفلت على الشعب كله، لقد اعتدى آلاف من الجمهور الجزائري على الجمهور المصري فهل يعني هذا أن ملايين الجزائرين مجرمين، وبسبب التحريض الغوغائي من بعض وسائل الإعلام الجزائري اعتدى جزائريون في الجزائر على مصريين وعلى مصالح مصرية هناك، فهل يعني هذا أن نرد بالمثل ونعتدي على المصالح الجزائرية في مصر ونتصرف بمنطق الغابة، ويركب كل من يريد أن يصبح زعيمًا ببلاش الموجة محرضًا ومتخذًا مواقف تزيد النار اشتعالًا.
 إذا كنا نهاجم التصرفات الغوغائية التي ارتكبها البعض في الجزائر ضد منشأت مصرية، فهل يعقل أن يدمر المتظاهرون في القاهرة بالقرب من السفارة الجزائرية في الزمالك محال تجارية لمصريين ومحطة بنزين وسيارات المواطنين، وأن نصيب أكثر من ثلاثين ضابطًا وجنديًا كل ذنبهم أنهم يؤدون واجبهم في حماية سفارة بلد تربطه بمصر علاقات دبلوماسية، وإن أي اعتداء على هذه السفارة أو على العاملين فيها يشكل خرقًا لالتزامات الدولة حيال حماية البعثات الدبلوماسية على أرضها.
 أكتب هذه الكلمات والمشاعر ما تزال غاضبة، والنفوس مشحونة، وما زال هناك من يواصل شحنها أكثر وأكثر، وما زالت توابع الصراع الكروي المصري الجزائري تتوالى، أكتب متمنيًا أن تكون النار تأخذ طريقها لأن تصبح رمادًا عندما تنشر هذه الكلمات، ربما تنجح كلمات الرئيس الحكمية التي قالها في مجلس الشعب في تهدئة النفوس، "إنه يغضب مثل الجميع، لكنه يتحكم في أعصابه"، وهذا بالتحديد المطلوب، لقد حدث ما حدث وغضب الناس وخرج منهم أسواء ما فيهم، لكن آن الأون لشيئ من الهدوء، شيئ من الحكمة، لا يمكن أن نترك أفعال إجرامية قام بها مجموعة من المتهوسين تدمر علاقات بين شعبين ودولتين، آن الأوان لعقلاء هذه الأمة أن يتكلموا ويتحركوا في محاولة للتهدئة وإزالة آثار الشحن الغوغائي المتعمد الذي قام به الإعلام في الطرفين.
 إن التوتر الكروي بين مصر والجزائر قديم عمره سنوات، لكن هل نترك الكرة تفسد علاقات تاريخية طويلة وممتدة بين الشعبين المصري والجزائري، هل ننسى الدعم المصري لثورة الجزائر والمساندة الجزائرية لمصر في حرب أكتوبر؟ هل نضيع مصالح مشتركة بين البلدين والشعبين من أجل الكرة وتوابعها، من أجل تصرفات مجموعة من الغوغائين موجودين في كل شعوب الدنيا؟
 وفي مصر هنا تقع معارك بين جماهير الأندية المختلفة يسقط فيها جرحى وأحيانا قتلى أكثر بكثير ممن أصيبوا في معارك أم درمان فهل نشعلها حربًا أهلية؟
 لقد ارتكب المتهوسون من الجمهور الإنجليزي في عدد من المدن الأوروبية جرائم أبشع مما ارتكبه المتهوسون من الجمهور الجزائري، لكن لم يدق أحد في بلجيكا أو هولندا أو فرنسا طبول الحرب والعداء ضد الشعب الإنجليزي وحكومته بسبب أفعال الحمقى، قد تقوم بعض وسائل الإعلام الصفراء والغوغائية هناك بالتحريض لكن لا تأثير لها ولا وزن في الرأي العام.
 إن التعصب شيئ مقيت وبغيض في الفكر وفي السياسة وفي الحياة، ما بالنا في الرياضة التي يفترض أن تنمي بيننا قيم المحبة والتعاون والسلام والتصالح، أو هكذا حاول العقلاء من البشر أن يصنعوا منها، حقا إن تاريخ البشرية يعرف وقائع من الجنون التي ارتكبت باسم الرياضة، ففي القرن الماضي قامت الحرب بين نيكارجوا وهندوراس بسبب مبارة كرة، وفي العصر البيزنطي قامت أكبر ثورة في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية بسبب سباق للعربات التي تجرها الخيول بين الفريقين الأزرق والأخضر هي ثورة نيقا، وفي العصر الذي نطلق عليه العصر الجاهلي قامت أشهر الحروب بين عبس وذبيان حرب داحس والغبراء بسبب سباق الخيل، فهل نريدها داحسًا وغبراء؟
الدستور 2 ديسمبر 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق